الاثنين، 13 يناير 2014

ابن تيميَّة ومقاصد شرعيَّة غائبة

غالِب المتحدِّثين عن مقاصد الشريعة يُعوِّلون على ما كتبه الشاطبيُّ - رحمه الله، ويجعل بعضُهم سائرَ العلماء تبعًا لمَا حرَّره الشاطبي في المقاصد، كما فعَلوا مع ابن تيميَّة، دون النَّظر في مواطن التميُّز والاستقلال لكلٍّ منهما.
وفي تراث ابن تيميَّة معالمُ جليلةٌ، وتقريراتٌ بديعة، في شأن مقاصد الشَّريعة، تَكشف رسوخَه في التَّحقيق والتأصيل للمقاصد، وتُظهر تفرُّده ومخالفتَه الفلاسفةَ والمتكلِّمين والمتصوفة - ومَن تأثَّر بهم - الخائضين في هذا الباب.
ولعلَّ هذه السطور التالية تَفتح البابَ إلى هذا الموضوع الكبير:
• كثيرًا ما يُقرِّر ابن تيميَّة أنَّ الإنسان مضطرٌّ إلى شرْع في حياته الدُّنيا[1]، وأنَّ هذا في طبيعة الإنسان كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أصدقُ الأسماء: حارثٌ، وهمَّام[2]))، فهو حارثٌ، أي: عامل كاسب، فالشرع من لوازم وجود بني آدَم؛ فمن لم يأمر بالشرع المنزَّل أمَر بضدِّ ذلك[3].
وكما أنَّ الشرائع ضرورةٌ لبني الإنسان، فهي قُرَّة العيون، وسرور القلوب، وليست مجرَّد تكاليف.. كما حرَّره ابن تيمية بقوله: (لم يجِئ في الكتاب والسُّنة وكلام السَّلف إطلاقُ القول على الإيمان والعمل الصالح أنَّه تكليف، كما يُطلق ذلك كثيرٌ من المتكلِّمة والمتفقِّهة، وإنَّما جاء ذِكر التكليف في موضع النَّفي، كقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، أي: وإن وقَع في الأمر تكليف، فلا يقع إلَّا قدْر الوُسع، لا أنَّه يُسمِّي جميع الشريعة تكليفًا، مع أنَّ غالبها قُرَّة العيون، وسرور القلوب، ولذَّاتُ الأرواح، وكمال النَّعيم..)[4].
• احتفَى ابن تيميَّة بالأوامر الشرعيَّة، باعتبار أنَّ المأمورات مقصودة لذاتها، وقرَّر أنَّ جنس فعل المأمورات آكدُ من جنس ترْك المنهيَّات[5]، فقال - رحمه الله: (لا يُنهى عن منكر إلَّا ويُؤمَر بمعروف يُغني عنه، كما يُؤمر بعبادة الله سبحانه، ويُنهى عن عبادة ما سواه، والنُّفوس خُلِقت لتعمل لا لتترُك، وإنَّما الترْك مقصود لغيره؛ فإنْ لم يشتغل بعمل صالح، وإلَّا لم يترُكِ العمل السيِّئ، أو الناقص..)[6].
وبيَّن - رحمه الله - أنَّ مَن لم يفعل المأمور، فعَل بعضَ المحظور.. فكان ممَّا قال: (وهكذا أهلُ البِدع؛ لا تجد أحدًا ترَك بعض السُّنة التي يجب التَّصديق بها والعمل، إلَّا وقع في بِدعة، ولا تجِد صاحب بِدعة إلَّا ترَك شيئًا من السُّنة..)[7].
(ومتى اغتذتِ القلوب بالبِدع، لم يبقَ فيها فضلٌ للسُّنن)[8].
ولمَّا قرَّر أنَّ النفوس خُلقت لتعمل لا لتترك، انتقَد - في موطن آخر - المتفلسفةَ ونحوَهم في تعويلهم على السَّلب والنفي للصِّفات الإلهيَّة، وأمَّا الأفعال والسلوك، فيغلب عليهم الذمُّ والترك من الزُّهد الفاسد، والورع الفاسد، من غير أن يأتوا بأعمال صالحة[9].
والحاصل: أنَّ الشرائع المأمور بها مقصودةٌ لذاتها، وبلزومها يخلُص العبد من المنهيَّات، ويَسلَم من الكسل والبطالة والعجز.
• اعتنى أبو العبَّاس ابن تيمية بإظهار مقاصد الشَّرائع تفصيلًا، فقال عن الحج: (فالمقصود من الحجِّ عبادةُ الله وحده في البِقاع التي أمر الله بعبادته فيها؛ ولهذا كان الحجُّ شِعارَ الحنيفيَّة..)[10].
وحدَّد مقصود الجهاد بقوله: (المقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر: هدايةُ العباد لمصالح المعاش والمَعاد بحسَب الإمكان..)[11].
وأوجز مقصودَ الولايات والإمارات - كولاية الحرْب، والقضاء، والإمامة العظمى، ونحوها - فقال: (جميعُ الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العُليا؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى خلَق الخَلْق لذلك..)[12].
• إذًا تقرَّر من خلال الأمثلة السابقة - كالحج، والجهاد، والولايات - أنَّ المقصود منها: عبادةُ الله وحده، وإقامة الدِّين كلِّه لله.
فهذا يتَّسق مع تقريرات ابن تيمية بأنَّ العبادة أصلها القصد والإرادة، وأنَّ الله تعالى هو المألوه، أي: المعبود المقصود، المراد المطلوب[13].
فعبادة الله هي أشرفُ الغايات، وهي مقصودةٌ في نفسها، خلافًا للمتفلسفة والمتكلِّمة والمتصوِّفة ممَّن جعل العباداتِ وسيلةً لتهذيب الأخلاق!
فقال - رحمه الله -: (للنَّاس في مقصود العبادات مذاهبُ؛ منهم من يقول: المقصود بها تهذيبُ أخلاق النفوس وتعديلها.. وليستْ هي مقصودةً في نفسها، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول مَن اتَّبعهم مِن الملاحدة والإسماعيليَّة وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميِّين، كالفارابي وابن سينا وغيرهما، ومَن سلك طريقتهم من متكلِّم، ومتصوِّف، ومتفقِّه)[14].
• انتقَد ابن تيمية قومًا من الأصوليِّين الذين يُعلِّلون الأحكام الشرعيَّة بحِفظ مصالح دنيويَّة، ويُهملون ما يتعلَّق بصلاح القلوب، وتزكية البواطن، فقال: (وقوم من الخائضين في أصول الفِقه وتعليل الأحكام الشرعيَّة بالأوصاف المناسبة، إذا تكلَّموا في المناسبة، وأنَّ ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمَّن تحصيلَ مصالح العباد ودفْعَ مضارهم، ورأوا أنَّ المصلحة نوعان: أُخروية، ودُنيوية، جعلوا الأُخروية ما في سياسة النَّفْس، وتهذيب الأخلاق من الحِكَم، وجعلوا الدُّنيوية ما تضمَّن حِفظ الدِّماء والأموال والفُروج والعقول والدِّين الظاهر، وأعرضوا عمَّا في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارِف بالله تعالى وملائكتِه وكُتبه ورُسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبَّة الله، وخشيته، وإخلاص الدِّين له، والتوكُّل عليه، والرَّجا لرحمته، ودُعائه..)[15].
وهذا التَّحرير السَّابق هو تعقيب على مَن قال: إنَّما حُرِّم الميسرُ لمجرَّد المقامرة، أو لمجرَّد أكْل أموال الناس بالباطل، فبيَّن ابن تيمية أنَّ علة التحريم جاءت منصوصًا عليها في قوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91]، فوقوع العَداوة والبغضاء من أعظم الفَساد، وصدود القلْب عن ذِكر الله وعن الصَّلاة من أعظم الفساد؛ فكيف تُجعل مفسدة المال هي حِكمةَ النهي فقط، وهي تابعة، وتُترك المفسَدة الأصليَّة التي هي فسادُ القلب؟![16].
• جعل الفلاسفة مقصودَ الشرائع إقامةَ مصالح الناس في دُنياهم بالعدل الذي شرَعته الأنبياء[17]، لا لأنَّ ذلك يوجب السَّعادة في الآخِرة، وفي كلام أبي حامد الغزالي ما يَميل إلى هذا، كجعْله منفعةَ عِلم الفقه في الدُّنيا فقط[18].
• وكشَف ابن تيميَّة زَيْفَ الذين يجعلون الشرائع لمصالح دُنيويَّة، ولا يُقيمون ليوم الآخِرة وزنًا، ولا يرفعون بذلك رأسًا.. فكان ممَّا قاله: (ليس المقصود بالدِّين الحقِّ مجرَّدَ المصلحة الدُّنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيويَّة، كما يقوله طوائفُ من المتفلسفة في مقصود النَّواميس والنبوات، أنَّ المراد بها مجرَّدُ وضْع ما يحتاج إليه معاشهم في الدُّنيا من القانون العدلي الذي ينتظِم به معاشهم. إلى أن قال: وهؤلاء المتفلسفة الصَّابِئة المبتدِعة من المشَّائين، ومَن سلك مسلكَهم من المنتسبين إلى المِلل في المسلمين واليهود والنَّصارى؛ يجعلون الشرائع والنواميس لوضْع قانون تتمُّ به مصلحةُ الدُّنيا؛ ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد، وهو عبادة الله وحده، ولا بالعمل للدَّار الآخِرة، ولا يَنهَوْن فيها عن الشِّرك، بل يأمرون فيها بالعدل والصِّدق والوفاء بالعهد، ونحو ذلك من الأمور التي لا تتمُّ مصلحةُ الحياة الدنيا إلَّا بها..)[19].
فكأنَّ ابن تيميَّة يتحدَّث عن واقعنا الحاضر؛ فقد استحوذ النَّفَس الدنيوي في هذا العصر، فانهمَكوا في الحديث عن ثقافة الحقوق المعاشيَّة والدنيويَّة، واقتصروا في الأخلاق على ما يحقِّق مصالح الدنيا وحظوظها فحسبُ، وغاب التَّذكير بالإيمان بالآخِرة، وغلَب الاهتمامُ بالعمران والحضارة وشبهها من أحوال الدُّنيا والمعاش، وصار الاهتمامُ بالحِكَم الدنيويَّة في العبادات والمعاملات، والغفلة عن الحِكَم الأُخروية؛ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧].
وأخيرًا: فهذا الشَّرع المنزَّل أعظمُ الضرورات، وهو أتمُّ نِعمة، وأعظم سرور، وعبادةُ الله ولزومُ شرْعه أشرفُ الغايات والمقاصد؛ فلا يسوغ أن يكون وسيلةً لغيره، ولا يصلُح أن تكون مجرَّد حظوظ الدنيا مرادةً من الشَّرع مع الإعراض عمَّا هو خيرٌ وأبقى، من صلاح القلب، ونعيم الآخِرة، والشَّوق إلى لقاء الله، والنَّظر إلى وجهه الكريم.
د. عبد العزيز بن محمَّد آل عبداللَّطيف
------------------------------------------------------------------------------------
[1] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 500)، ((الإيمان)) (ص: 40)، ((جامع الرسائل)) (2/ 221)، ((المجموعة العلية)) (2/ 201).
[2] أخرجه أبو داود ح (4950)، وأحمد (4/ 345).
[3] ينظر: ((الاستقامة)) (2/ 294).
[4] ((الفتاوى)) (1/ 25- 26)، وينظر: ((شفاء العليل لابن القيم)) (ص: 475).
[5] انظر: ((الفتاوى)) (20/ 85).
[6] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 617).
[7] ((كتاب الإيمان)) (ص: 164).
[8] ((الاقتضاء)) (2/ 597).
[9] انظر: ((الفتاوى)) (20/ 126).
[10] ((الاقتضاء)) (1/ 830).
[11] ((الفتاوى)) (35/ 160).
[12] ((الفتاوى)) (28/ 61) (الحسبة).
[13] ينظر: ((الفتاوى)) (1/ 22)، (9/ 319)، (10/ 272).
[14] ((الجواب الصحيح)) (4/ 105).
[15] ((الفتاوى)) (32/ 234)= باختصار يسير.
[16] ينظر: ((الفتاوى)) (32/ 224-233).
[17] ينظر: ((الدرء)) 7/ 333، و((الفتاوى)) 17/ 330.
[18] ينظر: ((الرد على حزب الشاذلي)) (ص: 203).
[19] ((جامع الرسائل)) (2/ 231- 233)= باختصار.