الأربعاء، 12 مارس 2014

المبحث الاول : الهندسة الفقهية بين المخارج والحيل



المبحث الأول
الهندسة الفقهية بين المخارج والحيل

نجد إن من أحكام الشريعة الإسلامية ([1]):
أ- أحكام عبادات              ب- أحكام معاملات   
فالنوع الأول يعنى بعلاقة العبد بربه, وأحكام العبادات؛ التي يجب أن يصرفها العبد لربه .
النوع الثاني من الأحكام ؛ وهي أحكام المعاملات؛ وتهتم بعلاقة العبد مع الغير؛ سواء أفراد أو مجتمعات ؛ وهذا النوع من الأحكام فيه توضيح كامل لجميع علاقات الأفراد مع  بعضهم مع بعض فيما هو محرم ومباح ومستحب وجائز ؛ يقول الله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء, آية 29.
 وقد فصل العلماء بين الأحكام الثابتة والقابلة للتغيير. فأما الأحكام الثابتة فهي التي تمثل أصول الشريعة وأسسها ومبادئها؛ وهي التي أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم-  في خطبة الوداع , و الأحكام التي تتعلق بمقاصد الشريعة؛ كتحقيق العدل, ومنع الظلم, وحفظ الضروريات . أما الأحكام التي تتعلق بالوسائل, أو ثبتت باجتهاد, وتلك التي تستند على أدلة ظنية, فإنها قابلة للتغيير,فهناك اتفاق بين العلماء على وجود الأحكام الثابتة والمتغيرة أو القابلة للتغيير . فمن الأحكام الثابتة في المجال الاقتصادي - على سبيل المثال - تحريم الربا، ووجوب الزكاة ,ووجوب الوفاء بالعقود, تحريم أكل أموال الناس بالباطل, ومن الأحكام المتغيرة أحكام التسعير والاحتكار والاكتناز...  .([2])
فالمقصود بالأحكام المتغيرة تلك التي تتعلق بقضايا متغيرة تتغير عللها بتغير الزمان والمكان, فقد تأخذ حكم التحريم لوجود علة التحريم, وقد تأخذ حكم الجواز أو الإباحة لانتفاء علة التحريم. فالأصل - في المعاملات- الالتفات إلى العلل والمصالح, كما أن الأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد.
 وكما يقول الشاطبي: " فإن وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد , والأحكام العادية تدور معه حيثما دار, فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة,فإذا كان فيه مصلحة جاز".
 وكما يقول في موضع آخر: " النظر إلى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقه أم مخالفة"([3])
فالشريعة الإسلامية حرمت الربا - بكل أنواعه وأشكاله- وحرمت الغرر, والرشوة, وغسيل الأموال, والاحتكار, والنجش, وجميع أنواع الكسب؛ التي يتحقق فيه الظلم, وأكل أموال الناس بالباطل.
الفرق بين الحلول الشرعية والحيل البدعية  :
من أكثر الإشكالات مسائل الحيل, ومسائل المخارج الفقهية, وكيفية التفريق بينهما، و يظهر التفريق بين مسألة الحيل و مسألة المخارج الجائزة أن كثيراً من المسائل التي ظاهرها التحايل دائرة بين هذين الأمرين؛ إما أنه حيلة مذمومة, أو مخرج جائز.
 فالحيلة: هي تحقق مقصود المكلف المنافي للشرع, فإذا كان قصد الشارع تحريم الربا, فالحيلة هي اللجوء إلى بيع العينة؛ للحصول على الزيادة؛ التي حرمها الشارع في الربا.
والعينة ،هي أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته ،وسميت العينة لحصول العين أي النقد فيها ولأنه يعود الى البائع ماله .وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد وجوزه الشافعي وأصحابه . ([4])

أولا: الأدلة التي يستدل بها غالباً على الحيل المذمومة :
1- ( قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ ) رواه البخاري.
([5])
2- قوله تعالى (
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }البقرة آية65-66
قال ابن كثير في تفسيره يقول تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } يا معشر اليهود، ما حل من البأس بأهل القرية؛ التي عصت أمر الله, وخالفوا عهده, وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت, والقيام بأمره؛ إذ كان مشروعًا لهم؛ فاحتالوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت؛ بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود ، فترتكبوا محارم الله بأدنى الحيل"
 قال الألباني رواه ابن بطة في" جزء الخلع و إبطال الحيل " و إسناده جيد؛ كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره( 2 / 257 ) و غيره في غيره ..
ثانياً: الدليل الذي يُستدل به على المخارج
( عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-  قَالَ :جَاء َبلال إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ بِلال: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ؛ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لا تَفْعَلْ , وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ, ثُمَّ اشْتَرِهِ ) متفق عليه.
([6])
وجه التفريق بين الحيل المحرمة والمخارج هو الآتي  :
أ
(أن المحتال يقع في الحرام؛ وذلك بفعل عين الحرام ؛ مع زيادة التحايل ) كما في مسألة أصحاب السبت.,مثال ذلك بيع العينة  ؛ وهو أن يبيع رجل سلعة بأجل ( بأكثر من قيمتها ) إلى آخر ثم يشتريها منه نقدا ( بأقل مما باعه ) كمن يبيع سلعة بـ 80 إلى أجل ثم يشتريها بـ 50 نقدا ..
ووجه الذم هو ( أنهم أدخلوا السلعة حيلة على الربا, والسلعة ليست مقصودة ؛ فقط  جاؤوا بها للتحايل؛  فوقعوا في الحرام ,والرسول - صلى الله عليه وسلم-  نهى بيعتين في بيعه . ومن صور تفسير البيعتان في بيعه هو بيع العينة؛ كما قال ابن القيم, ووافقه جمع من أهل العلم .
ب
- ( أن المحتال يخالف مقصود الشارع ؛ بفعل أمر ظاهره الجواز )
الخلاصة في معرفة أنها حيلة في أمرين :
1- أن يأتي الحرام بصورة أخرى ( مخادعة للشرع ) مع زيادة نية التحايل( كبيع العينة )
2- أو مخالفة مقصود الشرع ؛ وإن كان ظاهر العقد صحيحاً بشروطه.(كنكاح التحليل)
أما مسألة المخارج؛وهي الجائزة؛ وهي التي انتفى عنها الأمران السابقان( في مسألة الحيلة):
كما جاء الحديث؛ حيث إنه باع صاعي تمر ( غير جيد ) بصاع تمر ( جيد ) فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم - عين الربا , ثم أرشده بالمخرج , وقال: (لا  تَفْعَلْ, وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَر, َثُمّ َاشْتَرِهِ) حيث أرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع تمره ( الصاعين الغير جيد ) ثم إذا باعها يذهب ويشتري بقيمتها تمراً جيداً فهذا مخرج
 جائز- ولله الحمد- وليس فيه حيلة؛ إذ هو بيع مما أحله الله , وإرشاد من النبي – صلى الله عليه وسلم ـ .
ومثال ذلك  مسائل مشهورة مما اختلف فيها اختلافا قويا؛ مثل: مسألة التورق, والمرابحة للآمر بالشرا ء , هل ذلك من التحايل أم من المخارج ؟ وهي ما بين مجيز ومانع؛ وذلك حسب الفهم للمسألة ([7]).
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بما يكفل للناس وفاء احتياجاتهم الاقتصادية, وإنما ينشأ الحرج من أحد أمرين: أ- خلل في فهم الشريعة المطهرة.        ب- انحراف الواقع وبعده عن الإسلام.
فالحلول الشرعية متفقة مع قصد الشارع من الأحكام الشرعية؛ فهي تحقق مقصود الشارع؛ دون الإضرار بالمكلف , والعكس صحيح؛ أي تحقق مصلحة المكلف؛ دون الإخلال بمقصود الشرع.
إن اختلاف الفقهاء هو رحمة للأمة, ومما لاشك فيه أن الفقهاء قد اختلفوا في كثير من الأحكام, ومن الممكن ترجيح بعض هذه الأقوال بعلل, أو أدلة جديدة حتى وإن كانت هذه الأقوال على خلاف رأي الجمهور؛ فإحياء هذا القول, طالما يخضع للمنهج العلمي في الاستدلال والترجيح, ويحقق مصلحة الأمة الإسلامية هو - في الحقيقة-  من السنة الحسنة .
ومن الأمثلة على ذلك إجازة بيع العربون من قبل المجمع الفقهي ؛ على الرغم من اختلاف الأئمة الأربعة فيه, ولم يقل بجوازه إلا الإمام أحمد بن حنبل؛ وذلك لما فيه من تحقيق مصلحة, وتيسير لمعاملات المسلمين؛ وذلك بدون الإخلال بالقاعدة الشرعية أوالحكم الشرعي.
ومن جوانب الإبداع استنتاج علة جديدة لم تكن معلومة للحكم الشرعي؛ إذا كان ذلك الحكم معللا, أو قابلاً للتعليل ؛ حيث يبين الباحث نوع العلة؛  التي يبني عليها الحكم  ثم يبين انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ؛ مثل تعليل شيخ الإسلام ابن تيمية للبيع قبل القبض بأنه فوات فرصة الربح ؛ إذا رأى البائع أن المشتري قد باعه بربح ؛ فيجحد البيع , ويمنع تسليم المبيع.يقول النبي صلى الله عليه وسلم :(إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه)فالحكمة في التحريم عند ابن تيميه هو في عجز المشتري عن التسليم لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه خصوصا إذا رأى المشتري أنه قد ربح ببيعه .([8])
 مع العلم أن غيره من الفقهاء اعتبر في ذلك شبهة الربا, ومنهم من اعتبر في ذلك نوعاً من الغرر ؛ بينما اعتبر الغير أن الحكم في النهي تعبدي غير معقول العلة.
 إن الشريعة الإسلامية تضمنت الأسس اللازمة لقيام الهندسة المالية؛ فهي شجعت على الابتكار, ودعت إليه, ووضحت الأسس؛ التي يمكن الاسترشاد بها ؛ من أجل عملية التطوير, والإبداع من أجل تحقيق المصلحة المرجوة.
 وكما شجع الإسلام التطوير والإبداع فقد فرق بين الإبداع والابتداع؛ فالتطوير والتحسين والابتكار لا يعني التشريع أو تغيير الحكم الشرعي, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:(من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )([9]). هنا وصف رسول الله العمل بالحسن ,ولا يكون العمل حسنا , إلا إذا وافق الشرع, فلو كانت السنة مخالفة للشرع لما كانت حسنة؛ فجانب الاختراع والابتكار المشروع هو - بالدرجة الأولى- في التطبيق, أو التنفيذ للحكم الشرعي؛ كما ورد في الحديث ؛ وليس في نفس الحكم .([10])
لقد أدى التطور الكبير في البيئة الاقتصادية والاستثمارية إلى ضرورة البحث عن أدوات ومنتجات مالية جديدة ؛ فالتغير في أ سعار الصرف , وأسعار العملات, وأسعار الفائدة, والتضخم؛ كل هذه التغيرات المتسارعة أدت إلى ضرورة البحث عن منتجات مالية جديدة أقل تكلفة, وأدنى مخاطر, وأعلى عائد,وتعتمد المنشآت المالية على استثمار الهندسة المالية بغرض: تخفيض تكلفة التمويل، وتخفيض المخاطر، وتوفير ضمانات الائتمان. ([11])


  1)  MunawarIgbal, Tarigullah Khan, Financial Engineering and Islamic Contracts, Palgrave Macmillan,2005, p.2                                                                                       
    (1) الحطاب,كمال توفيق, منهجية البحث في الاقتصاد الإسلامي وعلاقته بالنصوص الشرعية , مجلة جامعة الملك عبد العزيز-جدة,2003,ص11.
(2) الحطاب, كمال توفيق, مرجع سابق,ص22.
    (1) العسقلاني ،الحافظ بن حجر ، بلوغ المرام من أدلة الأحكام ، مع تعليقه اتحاف الكرام فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام للنشر والتوزيع ،الرياض ،2001م .ص257.
(2) سابق،السيد، فقه السنة، دار الكتاب العربي ،المجلد الثالث،ص115.
   (1) متفق عليه،(صحيح الجامع :7378).
   (1) القصيمي, أبو البراء ملتقى أهل الحديثhttp//:www.ahlalhadeeth.com/vb//index.php.
   (1) الموسوعة الفقهية "بيع مالم يقبض" الأشباه والنظائر لابن السبكي 2/300-301.
    (2) رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه (صحيح الجامع6305).
(2) د.سويلم, سامي ,ص13.
(3) د. النجار , فريد , مرجع سابق,ص247-248.