إبلاغ البنوك عن العمليات المالية المشبوهة بين الإلتزام
والمسؤولية
في القانون المقارن والفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
1. مقدمــة:
يعد تعبير غسل الأموال، ترجمة للتعبير الإنجليزي money laundering، والتعبير الفرنسي Blanchiment de capitaux، وهو تعبير مجازي، وليس تعبيرا قانونيا، إذ التعبير
القانوني له، هو "وسائل مكافحة ومحاربة الأموال غير المشروعة".
ويعني غسل الأموال، كل نشاط يقوم به الشخص مستهدفا إضفاء
الصفة الشرعية على الأموال المتحصلة بطريقة غير مشروعة، لتطهير تلك الأموال من دنس
عدم المشروعية، وذلك من خلال إستثمارها في أغراض مشروعة[1].
وقد عرفت الفقرة الأولى من المادة (324-1) من قانون
العقوبات الفرنسي[2]،
"غسل الأموال بأنه " كل فعل يتمثل في تقديم المساعدة – بأي وسيلة كانت –
في إضفاء المشروعية الكاذبة فيما يتعلق بمصدر أموال أو دخل لفاعل جناية أو جنحة،
حققت له ربحا مباشرا أو غير مباشرن ويشكل غسيلا للمال ايضا كل مساعدة لعملية إيداع
أو إخفاء أو تحويل لمال تحصيل بشكل مباشر أو غير مباشر من جناية أو جنحة"[3].
كما عرفته المادة الأولى (ب) من قانون مكافحة غسل
الأموال المصري، رقم (80) الصادر في 22 مايو 2002 م بأنه "كل سلوك ينطوي على
إكتساب أموال أو حيازتها أو التصرف فيها أو إدارتها أو حفظها أو إستبدالها أو
إيداعها أو ضمانها أو إستثمارها أو نقلها أو تحويلها أو التلاعب في قيمتها إذا
كانت متحصلة من جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة (2) من هذا القانون مع
العلم بذلك، متى كان القصد من هذا السلوك إخفاء المال أو تمويه طبيعته أو مصدره أو
مكانه أو صاحبه أو صاحب الحق فيه أو تغيير حقيقته أو الحيلوله دون إكتشاف ذلك أو
عرقلة التوصل إلى شخص من إرتكب الجريمة المتحصل منها.
وقد نصت المادة الثانية من قانون مكافحة غسل الاموال
القطري رقم (28) الصادر في 3 رجب 1423 هـ 10 سبتمبر /2002م على أنه "يعد
مرتكبا لجريمة غسل الأموال:
1. كل من إكتسب أو حاز أو تصرف أو أدار او إستبدل أو أودع
أو أضاف أو إستثمر أو نقل أو حول مالا متحصلا من جرائم المدرات والمؤثرات العقلية
أو جرائم الإبتزاز والسلب أو جرائم تزوير وتزييف وتقليد أوراق النقد والمسكوكات أو
جرائم الإتجار غير المشروع في الإسلحة والذخائر والمتفجرات او جرائم متعلقة بحماية
البيئة أو جرائم الإتجار في النساء أو الأطفال، متى كان القصد من ذلك إخفاء المصدر
الحقيقي للمال وإظهار أن مصدره مشروع.
2. العامل في المؤسسة المالية الذي يقوم بتسليم مبالغ نقدية
أو أوراق مالية أو تحويلها أو إدخالها في معاملات مالية أو مصرفية، وكان على علم
أو توافر لديه ما يحمله على الإعتقاد أنها متحصلة من إحدى الجرائم المنصوص عليها
في البند السابق.
ويلاحظ أنه في السابق،
كان أصحاب الأموال غير المشروعة يلجأون إلى كتابتها بأسماء أقاربهم لإبعادها عن يد
القانون، ولكن التشريعات الحديثة جعلت من الممكن ملاحقة ثروات هؤلاء الأقارب
للتأكد من مصادرها، وبالتالي كان الحل المطروح أمام أصحاب هذه الأموال، هو إدخالها
في أنشطة مشروعة.
وتشير التقارير
الدولية المتخصصة إلى أن عمليات غسل الأموال غير المشروعة تحدث الآن تقريبا في
جميع دول العالم، وخصوصا تلك الدول التي تمر بعمليات إصلاح إقتصادي، للتحول إلى ما
يعرف بإقتصاد السوق، أو التي تفتح أبوابها أمام الإستثمارات الأجنبية، دون اي
ضوابط أو قيود ، تحول دون تسرب محترفي غسل الأموال الى أراضيها.
كما أن ثمة علاقة
وطيدة بين عمليات غسل الأموال والفساد، والذي يعني سوء إستخدام المنصب العام
لتحقيق غايات شخصية، حيث يتدرج الفساد من الرشوة إلى غسل الأموال، ويزداد ذلك في
الدول النامية، لإفتقارها وجود منظمات غير حكومية، والتي تعد من أهم عوامل كشف
الآثار الدولية النامية، لإفتقارها وجد منظمات غير حكومية، والتي تعد من أهم عوامل
كشف الآثار السلبية للفساد، على خلاف الحال في الدول المتقدمة[4].
كما تشير التقارير إلى
أن حجم الأموال المغسولة على نطاق العالم، يقدر بحوالي (750) مليار دولار سنويا،
أي ما يعادل (5%) من إجمالي الناتج المجلي الإجمالي العالمي، وما يعادل (8%) من
إجمالي حجم التجارة العالمية.
وتحتل الولايات
المتحدة الأمريكية رأس قائمة دول العالم في مجال غسل الأموال، حيث يصل حجم الأموال
المغسولة فيها وحدها إلى ما يزيد عن (200) مليار دولار.
وهناك قوائم دولية
تحدد أبرز وأخطر مراكز غسل الاموال في
العالم، وأهمها: إسرائيل، الفلبين، هونج كونج، الصين، الهند، أندونيسيا، بالإضافة
إلى عدد كبير من الدول الصغيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث ينتشر الفساد
وتجارة المخدرات، وتنعدم تقريبا كل أشكال الرقابة والقيود واللوائح التي يمكن أن
تعرقل عمليات غسل الأموال.
2. غسل الأموال أصبح أهم صور الجرائم المنظمة:
الجرائم المنظمة، هي الجرائم لا يرتكبها فاعل وحيد،
وتصيب بالضرر الكبير أكثر من دولة نتيجة لتجاوز حدودها، وإستخدام القوة المادية
والوسائل غير المشروعة، ونهب الأموال، والإبتزاز والخطف والتزييف والتزوير،
والإتجار غير المشروع بالأسلحة والمخدرات والصفقات غير المشروعة، وغسل الأموال،
وهي بذلك تتوافر بشأنها أوجه التماثل مع الجرائم الإرهابية، مما دفع مؤتمر الأمم
المتحدة التاسع في مجال منع الجريمة والعدالة الجنائية إلى الربط فيما بينهما
والدعوة إلى مكافحتهما، والتوصية بأن تدرج في جدول اعمال المؤتمر العاشر، تحت
عنوان "الربط بين الجريمة المنظمة غير الوطنية وجرائم الإرهاب. [5].
فعملية غسل الأموال أصبحت ظاهرة عالمية، حيث تساعد
المنظمات الإجرامية على إختراق وإفساد الهياكل الإقتصادية، والمؤسسات التجارية
والمالية المشروعة للمجتمع، مما تؤدي إلى إهتزاز بنيانه المالي.
3. إضرار عمليات
غسل الأموال:
تؤدي عمليات غسل الأموال إلى تشجيع إرتكاب الجرائم بصفة
عامة، وبخاصة تلك الجرائم الخطرة المدرة للأموال.
ولا يخفي وجود إرتباط بين الدخول المحققة في الإقتصاد
الخفي وأنشطة الإرهاب المحلي والعالمي وتشجيع العنف ودعم القائمين بالعمليات
الإرهابية ماديا، وإرتباط ذلك بعمليات غسل الأموال[6].
كما أن غسل الأموال يدخل ضمن مقومات الاقتصاد الخفي،
بإعتباره مجموعة من الأنشطة التي تحقق دخلا لا يتم تسجيله رسميا ضمن حسابات الناتج
القومي، أما لتعمد إخفائه تهربا من الإلتزامات القانونية المرتبطة بالكشف عن هذه
الأنشطة، وإما بسبب أن هذه الأشطة المولدة لدخل بحكم طبيعتها، تعد مخالفة للقوانين
السائدة في البلاد[7].
وتتمثل خطورة الإقتصاد الخفي، في أنه في حالة توظيف
الأموال غير المشروعة في مجالات الإستثمارات المتعددة، وإن كان يؤدي إلى رفع
معدلات النمو الإقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، إلا أن الباعث الدافع لتوظيف أو إستثمار هذه الأموال غير إقتصادي، بقدر ما هو
متعلق بإخفاء حقيقة مصدرها أو الإحتماء من المطاردة القانونية لها[8].
كما أن المؤسسات المالية التي تمارس فيها عمليات غسل
الأموال، تتأثر سمعتها المالية ومركزها الإقتصادي، الأمر الذي يؤدي انصرف العملاء
عنها.
هذا فضلا عن أن من شأن هذه الجريمة زعزعة الثقة بهذه
المؤسسات وعدم إستقرارها، حيث إن هذه الأموال عادة ما يتم نقلها منها بعد فترة إلى
مكان آخر، لذا تعمل على بقائها أطول فترة ممكنة من الوقت لإستثمارها، ومع ذلك
تفاجأ بإنتقال الاموال الى مكان آخر، ولذا فهي لا تتعامل مع مستثمر حقيقي[9].
ونظرا لهذه الآثار الإقتصادية، فإن جريمة غسل الأموال،
تعد من قبيل الجرائم الإقتصادية بمعناها الواسع[10].
الذي يشمل الجرائم الموجهة ضد الذمة المالية والتي ترتكب أثناء مباشرة النشاط
الإقتصادي أو لها علاقة بالنشاط الإقتصادي، ومنها الجرائم التي تسبب ضررا للإقتصاد
الوطني مثل النقود أو السرقات أو الإختلاسات في المنشآت الإقتصادية.
وفضلا عن الآثار الإقتصادية لعمليات غسل الأموال، فإن
لها آثارا إجتماعية، تتمثل في الإخلال بالعدالة في توزيع الدخول في المجتمع، حيث
يحظى بعض العاملين في عمليات غسل الأموال، مثل السماسرة والوسطاء وتجار الأراضي
والعقارات، بإرتفاع كبير في مستويات دخولهم، في الوقت الذي يضار فيه أصحاب الدخول
الثابتة، مما يؤدي إلى صعود بعض الفئات من أصحاب الدخول غير المشروعة إلى أعلى
درجات السلم الإجتماعي، بسبب زيادة الدخل والثروة، في الوقت الذي يتضاءل المركز
النسبي للفئات المتوسطة والفقيرة في الدخل[11].
4. خطة
البحث:
يشتمل البحث على خمسة مباحث وخاتمة:
- المبحث الأول :
تجريم عمليات غسل الأموال.
- المبحث الثاني : التزام البنوك بالإبلاغ عن العمليات
المالية المشبوهة.
- المبحث الثالث :
جزاء الإخلاء بواجب الإبلاغ ووسائل مساعدة البنوك في القيام به.
- المبحث الرابع :
عدم المسؤولية الجنائية بسبب الإبلاغ.
- المبحث الخامس : المسؤولية المدنية عن الخطأ في الإبلاغ
بين القواعد العامة وقوانين مكافحة غسل الأموال.
تاليف د. محمد أبو الوفا ، ابراهيم
[1] غير أن إستخدام الاموال غير
المشروعة في جرائم أخرى، بدلا من
إستثمارها في أغراض مشروعة، لا يزيل عنها صفة الجريمة، بل يجعلها أكثر
إمعانا في الإجرام ، وتتم مصادرتها عند الحكم بالعقوبة عن الجريمة المرتكبى في هذا
المعنى، الدكتور محيي الدين علم الدين: دراسة
حول قانون مكافحة غسيل الاموال، ملحق خاص، الأهرام الإقتصادي ، العدد 1753، 12
أغسطس 2002م ص 4.
[2] مضافة بالقانون رقم 96-392 الصادر
في 13 مايو 1996م، والذي أطلق عليه قانون مكافحة غسل الأموال والإتجار في المخدرات
والتعاون الدولي في مجال ضبط ومصادرة متحصلات الجريمة.
Loi No
96-392 du 13 mai 1996 relative a la lutte contre le blanchiment et le traffic
des stupefiants eta la cooperation international en matiere de saisie et de
confiscation des produits du crime.
وقد أنطوى هذا القانون على تجريم واسع للأفعال التي تشكل
غسلا للأموال.
Cf: marcel CULIOLI: infraction general de
blanchiment, conditions et constitution, juris classeur penal, Art 324-1 a 324
– 9, fascicule 20, no2.
[3] Art 324-1 "le Blanchiment est le fait de
faciliter, par tout moyen, la injustification mensonger de l'origine des biens
ou des revenues de l'auteur d'un crime ou d'un delit ayant procure a celui – ci
un profit direct ou indirect. Constitue egalement un Blanchiment le fait
d'apporter un concours a une operation de placement, de dissimulation ou de
conversion du produit direct ou indirect d'un delit".
[4] راجع : زياد عربية بن علي: الآثار
الإقتصادية والإجتماعية للفساد في الدول النامية، مجلة الأمن والقانون، كلية شرطة
دبي، السنة العاشرة، العدد الأول، شوال 1422هـ يناير 2002م ص 267 – 274.
[5] الدكتور محمد علي جعفر: السياسة الوقائية في مكافحة الجريمة، مجلة
الأمن والقانون كلية شرطة دبي، السنة السادسة، العدد الثاني، ربيع اول 1419 هـ
يوليه 1998 ص 63-64 الدكتورة فائزة يونس الباشا: الجريمة المنظمة في ظل الإتفاقيات
الدولية والقوانين الوطنية، رسالة دكتوراه، كليه الحقوق، جامعة القاهرة 2001م ص 49
وص 323.
[6] غير أن إستخدام الاموال غير
المشروعة في جرائم أخرى، بدلا من
إستثمارها في أغراض مشروعة، لا يزيل عنها صفة الجريمة، بل يجعلها أكثر
إمعانا في الإجرام ، وتتم مصادرتها عند الحكم بالعقوبة عن الجريمة المرتكبى في هذا
المعنى، الدكتور محيي الدين علم الدين:
دراسة حول قانون مكافحة غسيل الاموال، ملحق خاص، الأهرام الإقتصادي ، العدد
1753، 12 أغسطس 2002م ص 4.
[7] الدكتور حمدي عبد العظيم: غسيل
الأموال في مصر والعالم، الجريمة البيضاء، أبعادها، آثارها، كيفية معالجتها،
الطبعة الأولى، القاهرة 1997 ص 13.
[8] الدكتور صفوت عبد السلام عوض
الله: أبعاد ومكونات الإقتصاد الخفي،
دراسة في آليات الإقتصاد الخفي وطرق علاجه، مجلة العلوم القانونية والإقتصادية،
كلية الحقوق، جامعة عين شمس، السنة الثالثة والأربعون، العدد الثاني، يوليه 2001م،
ص 566 وما بعدها.
[9] F-J CREDOT, Patrice BOUTEILLER: Commentair L.No 90-614
juiellet 1990 relative a la participation des organisms financiers a la lutte
contre le, Blanchiment des capitaux provenent du traffic des stupefrants,
Actualite legislative dalloz 1990 P157 et s.
[10] بينما لا تدخل فيها طبقا لمعناها
الضيق، وهي الجرائم الموجهة ضد إدارة الإقتصاد فقط، المتمثلة في القانون الإقتصادي
او السياسة الإقتصادية أو كليهما، راجع:
Michel
VERON: droit penal special 2er triage, masson, Paris,
Milan,
barcelone, 1995, P117 ets.
الدكتور محمود محمد مصطفى: الجرائم الإقتصادية في القانون المقارن، الجزء
الأول، الأحكام العامة والإجراءات الجنائية، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي
1979 رقم 26 ص 44 الدكتور عبد الرؤوف مهدي:
المسؤولية الجنائية عن الجرائم الإقتصادية، منشأة المعارف الإسكندرية 1976
م رقم 35 – 39 ص 77 – 84.
[11] الدكتور السيد أحمد عبد الخالق،
المرجع السابق، ص 28-29، الدكتور حمدي عبد العظيم : المرجع السابق ص 13.